في تاريخ الشعوب، إنكسارات وإنتصارات، أمجاد وخيبات، عصر قمع وعهود حريات .
في تاريخ الشعوب حُكّام، أسياد، روّاد، دجالون، مبدعون، أوفياء وخونة، جغرافيا متحركة وأمل ثابت .
كذلك في تاريخنا اللبناني ، عرفنا إنتصارات بتيجان الجمال وكؤوس الرياضة، عرفنا العالمية والعالمية عرفتنا، طبعاً عرفنا هزائم الزحف والإرتهان، بطعم الملاجئ وبوسطات البدايات والنهايات.
في تاريخ لبنان، عرفنا حروباً عديدة، إنتماءات عديدة، تقلّباتٍ متعددة، أعداء منظورين عديدين وغير منظورين بأكثرية الأعداد...عرفنا عديداً من كل شيء، من الأفراح والأحزان، من سواد المشالح في يوم الوداع ويوم الذكرى، وعرفنا عديداً من آمال لم تُصب أيّ منها ، عرفنا عديداً من كل شيء....إلا من أمر واحد : عرفنا فيروز واحدة.
الحبر الصحافي يغصّ بقلمه في كل مرةٍ يحاول أن يرسم بخطوط الأحرف، كلاماً يصف فيروز. لأنها لم تُخلق ليُكتب عنها في مقالاتٍ مظفّرة الأوراق، بل خُلقت لتكتب هي نسخة تاريخ بقيمة الصوت وعلوّ الروح. هي فيروز، ذلك الخط الأحمر المرسوم داخل الضمير وخارج الحسابات. هي فيروز، طفولتنا التي تأبى النضوج، هي أول حب عرفناهُ ببراءة النيّة ونقاوة المشاعر، عرفناها بقيثارة ودمعة في ساعة سجود، عرفناها بصفحات شاعر خلاق، عرفنا فيروز في تراب نذرناه على مذابح التاريخ، عرفناها زُرق السماء في ملاجئنا الطوعيّة ، عرفناها سُكّر قهوة وملح أرض، عرفناها كلاماً يحلو للعقل وتستكين له الروح....هي فيروز، فيروزنا، أرضنا، عرضنا، شمعة صلاتنا،زرعنا، أرزنا...
لكننا وطنٌ، يُسكره خمر المصالح، ويُفسدهُ دود المخابرات. وطنٌ يغتال العشق والعشاق، يطربه الموت وتثيره أجساد الجثث وتغويه مقابر المؤامرات. وطن سمح لصُحيفي المخبرين بأن ينعت فيروز بصفات تشبه تلوّث ماضيه .
"لتبيع أكثر إفعل ما تشاء"، قاعدة تسويقية لا تليقُ بالصحافة، فالصحافة ليست منتج إستهلاك أو مصدر خدمات، إلا بالنسبة لأمثال "راسبوتين" لبنان، من تعوّد على أن يدسّ حبره الاخطابوطي على ورق مرخّص بفعل رُخص المحسوبيات السياسية. هو من إمتهن نقل البارودة من كتف إلى كتف، ولتطبيقه المثل الشائع "مين ما أخد أمي صرنا نقلّوا عمي" ، أصبح لديه بالفعل ذاته أعمام لا يُحصون . لتبيع أكثر، لم تكن مضطراً لإستبدال ورق الطباعة بأوراق النعوة، فموت قلمك حصل منذ أزمنة مضت، عندما فبركت هلوساتك "الإقليمية" في زيف الكلام.
فيروز هي نحن، فلتعرف إذاً أنك إستخدمت صورة لغلاف مجلتك ، صورة لبنانيي العالم ، وكل من ينطق بلغة الضاد، كل حُرّ يستيقظ في كل صباح، كل من عرف الشمس وذاق طعم الحياة.
مشكلتك باتت معنا، نحن من نمتهنُ صحافة لا تدركها، مشكلتك مع تاريخٍ لم تجد لنفسك أي مكان فيه ، مشكلتك مع قضاء وقدر، قضاء يجب أن تمثل لميزان عدله، وقدر سيكيل لك الكيل بمكيالين.
لن نسمح لأحد بأن يمسّ ذاكرتنا بحنينها وروعة سكونها، لن نسمح لأحد بأن يعكّر علينا صفوة المشاعر وسلام الصلاة. لن نسمح لك بأن تغتال وطننا عن سابق إصرار وبرطيل. لن نسمح لك بأن تسطو على كل ما نملك من ثروة وطنية، على ذهب اللحن وميزانيات الإبداع.
حاسبوه، حاسبوا من يكتب بلا حسيب أو رقيب ، حاسبوا من يبني شهرة من خشب التوابيت، حاسبوه، حاسبوا من يحمل هوية ومعها يحمل السكين، حاسبوه ، حاسبوا من يمسّ بفيروز، من يمس بلبناننا، بأرضنا، بذكرياتنا، بشمالنا، بجنوبنا، بصوتنا، بصباحنا، بما تبقى لنا من حياء.
فيروز تهان فليُحاسب صاحب القلم الأسود وليُصفع مجدداً.